“شيخ الإسلام ابن تيمية طيب الله ذكره، ظننت أني سأغرق بكتبه ولكني بغرقي ذاك نجوَت“.
غرّدتُ بتلك العبارة منذ أشهر، بعد أن منَّ الله عليّ بالإبحار في علم هذا الرجل ومنهجه، ولم أكن لأحلم قبلها في أن أكتب عنه.
وهأنذا أفعل..
“الأفكار لا تموت” حقيقة غائبة عن هواة مُصادرة الآراء وسجن الكلمة، وأعداء التراث.
بعد واقعة محرقة الكتب التي نفّذتها شخصية بارزة في وزارة التربية والتعليم بإحدى مدارس محافظة الجيزة بمصر، بحجة مواجهة التطرف والإرهاب.
وبعد استبعاد سيرة بطلي الإسلام عقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي من مناهج التعليم بمصر بدعوى أن سيرة الشخصيتين تحرض على العنف وإراقة الدماء.
لا يزال التوجّه نحو قطع الصلة بالتراث مستمرًا، والمحطة التي نزل فيها هذه المرة هي بلدي الأردن، حيث قررت دائرة المطبوعات والنشر التحفّظ على مؤلفات الإمام ابن تيمية والمُلقب بشيخ الإسلام، وهو ما يعني منعها من دخول البلاد.
ونقل موقع الجزيرة نت عن أصحاب دور النشر الأردنية خلال لقاء معهم، أن هذه الخطوة تأتي في سياق انخراط المملكة فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، وعلى وجه التحديد تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا باسم “داعش” بدعوى أن آراء ابن تيمية تمثل الزاد الفكري لهذا التنظيم.
هذه الحرب على شيخ الإسلام ابن تيمية، ليست وليدة اللحظة الراهنة، إنما لها جذورها التي تعود إلى عصر ابن تيمية نفسه، وبقيت حتى اليوم، ومع ذلك فمنهجه التجديدي يسري في دماء الأمة عبر القرون الماضية، وبلغت شهرته الآفاق حتى صار عَلَما من أعلام التجديد.
هذه الحرب على شيخ الإسلام تجتمع عليها عدة أطراف..
فالغرب يناهض أفكار بن تيمية لأنه صاحب فكر شمولي، ترتبط مؤلفاته والإرث الثقافي الذي خلّفه بواقع الناس، وكان هو في ذاته العالم الفقيه المفسر الأصولي الورع الزاهد صاحب الرؤية الاجتماعية، المجاهد المناضل، المُنظّر لفقه السياسة الشرعية.
وأشد ما يستثير فزع الغرب هو الفكرة الإسلامية الشمولية، التي تنطلق من كون الإسلام منهج حياة؛ ولذا يعتمد الغرب حاليا في ترويض النمر الإسلامي على التيار الصوفي الذي يختزل الإسلام في بعض القيم الروحية البعيدة عن التعاطي مع الواقع، وهو عين ما ينشده الغرب.
ومن ناحية أخرى، فإن غلاة الصوفية يعتبرون هذا الرجل ألدّ أعدائهم، ويكيلون له التّهم جزافا، ويطلقون عليه مع ابن القيم وشيخي محمد بن عبد الوهاب “ثالوث الكفر”.
كما أن الشيعة كذلك يعتبرون ابن تيمية من أعلام النواصب، وهو الاسم الذي يطلقونه على أهل السنة، بدعوى أنهم ناصبوا عليّا رضي الله عنه العداء، فعمّموا ما يُطلق بحق الخوارج (الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه آنذاك) على عموم أهل السنة.
وهذه العداوة التي يُكنّها أهل هاتين الطائفتين على وجه الخصوص؛ لأن ابن تيمية كان من أكثر علماء عصره اهتماما بالردّ على الفرق الضالة، ودحض افتراءاتها وشُبهاتها، وله معهم صولات وجولات، كانت سببا في سجنه لفترات طوال.
ولست هنا بصدد تقييم الإجراءات التي اتُّخذت بشأن كتب التراث وخاصة كتب ابن تيمية، فهو أمر بلا شك، ينُمّ عن مدى السطحية التي نتعامل بها مع أصحاب الأفكار والتوجّهات المختلفة، وليت حُكّام بلادي بدلا من أن يحظروا كتب ابن تيمية، أن يقوموا بحظر كتاب “الأمير” لمكيافيلي، والذي يُمثّل دستورهم في الوصول إلى العروش والحفاظ عليها بمعزل عن الوسيلة وجسر العبور أكانت على جماجم الشعوب او عبر نهر من دم المقهورين المغلوبين على أمرهم.
من قال إن مؤلفات ابن تيمية هي الزاد الفكري للفصائل الجهادية وحدها؟
من قال إن ابن تيمية مسؤول عن كلّ فكر أو منهج قام بتأويل كتاباته؟
من قال إن ابن تيمية مُتشدّد ولا يقبل الحوار ويُكفّر المخالف؟
من قال إن أفكار ابن تيمية ومؤلفاته هي من صَنَع التطرّف؟
ابحثوا عن الأسباب الحقيقية للتطرّف والإرهاب وإراقة الدماء، وانظروا في أي أجواء القمع والاستبداد نبتت شجرته.
إنني كمُسلمة من أهل السُنّة والجماعة كبُرت في كنف (منهاج السنّة واقتضاء الصراط المستقيم) وتشرّبت المعاني السامية في (العقيدة الواسطية) ونهلت من بعض مُجلدات (مجموع الفتاوى) نهجا صارما في التعاطي مع الواقع وتناقضات الدنيا، وكان أول كتاب أهدته لي مُعلمتي النجدية (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وأكاد أجزم أن من أوائل الكتب التي استعرتُها في الجامعة كانت (كتاب العبودية وكتاب السياسة الشرعية) إن لم تخُنّي الذاكرة.
فواجب عليّ أن أدافع عن ذلك الغائب الحاضر رغم جبروت الموت ورهبة التراب، ذلكم الذي وارى جثمانَه الثرى، وعانقت مؤلفاته الثريا.
وحتما لن تسمح لي مساحة السطور أن أمخُر في رحاب هذه الشخصية الفذة، لكنني أُسلّط الضوء على شيء من منهج ابن تيمية ومسلكه في التعامل مع المُخالف، لنرى إلى أي مدى كانت الجناية على هذا الرجل.
يقول عنه المفكر الإسلامي محمد عمارة: “هو واحدٌ من أبرز المُجدّدين في عصره؛ إذ جمع إلى الاجتهاد والجهاد ضد الغزاة -بالفكر والسيف- تقديم مشروع فكري لتجديد الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية”.
ابن تيمية هو من قصم حالة الجمود التي رانت على الأمة في ذلك العصر، وتصدى للتعصب المذهبي، ومارس الاجتهاد على طريقته الصحيحة الأولى.
ابن تيمية قدم منهجا متكاملا لمناظرة أهل البدع والضلالات، والرد على الفلسفة اليونانية بدقة وبلاغة وعمق.
ابن تيمية هو الذي أصّل للعلاقة بين العقل والنقل، وله كتاب بديع بعنوان “درء تعارض العقل والنقل”.
ابن تيمية هو من أحيا فقه الأولويات والمصالح والمفاسد، ونظّر لفقه السياسة الشرعية وصنّف فيها.
ابن تيمية هو من جمع بين النضال والجهاد بالكلمة في ميدان الوعي والفكر، وبين النضال والجهاد بالسيف في ميدان قتال الأعداء.
ابن تيمية هو من وضع قواعد في التعامل مع أهل البدع والمخالفين، لا تحيد عن العدل والحق الذي ارتضاه الله للناس.
قالوا عن ابن تيمية إنه مُنظّر التكفير!
إن عابوا عليه التكفير مُطلقا فقد خابوا وخسروا، فأيّ دين يخلو من مبادئ وضوابط للتكفير، يقول الباحث عائض الدوسري: “التكفير موجود في كل دين وفي كل مذهب وفي كل فكرة، ودين ليس فيه أصول يَكْفر من يُنكرها ليس بدين، وهذا أمرٌ تتفق عليه جميع الديانات السماوية”.
وأما إن أرادوا أن ابن تيمية يتساهل في التكفير ويجعل المُخالف له غرضا، فهي تهمة باطلة، فها هو يُبين منهجه في التكفير قائلا: “وليس لأحد أن يُكفّر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجة وتُبيّن له المحجّة (طريق الصواب أو جادة الطريق) ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة”.
وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى: “ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة”.
فهذا هو منهجه رحمه الله في التكفير، وهو أبعد ما يكون عن التشدّد والانحراف.
قالوا عن ابن تيمية إنه ضيّق الصدر تجاه المُخالف، ولينظر هؤلاء إلى سعة صدره في التعامل مع خصومه؛ إذ يقول: “هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإن هو تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية؛ فأنا لا أتعدى حدود الله فيه بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتمّا بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه”.
وقال عنه أحد القضاة وكان من خصومه: “ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا”.
وقال أيضا: “ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنات في السعي فيه، ولما قدِر علينا عفا عنا”.
لقد كان ابن تيمية مثلا فريدا في تقويم الآخرين وإن خالفوه، فبالرغم من أنه كان يناهض فكر المعتزلة؛ إلا أن ذلك لم يمنعه من قول الحق بشأنهم قال: “فعمرو بن عبيد وأمثاله (معتزلة) لم يكن أصل مقصودهم معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم”.
وقال عنهم: “إنهم مع مخالفتهم نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردّوا على الكفار والملاحدة بحجج عقلية”.
وقال الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود في كتابه “منهج ابن تيمية في التعامل مع الأشاعرة” : “شيخ الإسلام بنى ذلك على أصل ثابت عنده،وهو تفاوت الطوائف في القرب والبعد من الحق”.
فلم يكن الإمام يضع المخالفين في سلة واحدة، وهو ما يؤكد روح الإنصاف والعدل التي كان يتحلى بها الرجل.
فكان ابن تيمية إذا ناظر المخالفين له من الأشاعرة وغيرهم، أشاد بما عندهم من الحق، وأبدى ملاحظاته على ما لديهم من خطأ.
ويعتبر أن الأشاعرة هم أهل السنة في الأماكن التي يغلب عليها أهل البدع، فيقول: “هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم”.
وللذين يتهمون ابن تيمية بالطائفية أسوق هذا المثال، الذي جسّد سماحة وعدل الإسلام لدى شيخ الإسلام مع غير المسلمين، يحكي هو بنفسه قائلًا:
“لما خاطبتُ في إطلاق الأسرى وأطلقهم (غازان وقطلوشاه) وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين. قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يُطلقون. فقلت له: بل جميع من معكم من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكّهم ولا ندع أسيرا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله”.
فهل صاحب هذه الروح والمسلك، يُتهم بأنه مُنظّر تكفيري، ورأس فتن العصر يا معشر الظالمين؟
وكالعادة أرى خيبتي أمام ناظريّ، كلما تحدثتُ عن عُظماء الإسلام ورموز المسلمين، وأشعرُ في كل مرة أنني لم أوفِّهِم حقهم، ولكنه جهدُ المُقلّ وعسى أن يبارك الله في القليل.
فلستُ من أهل العلم؛ ولذا أهيبُ بعلمائنا ودُعاتنا، أن يقوموا بما عجزتُ عنه من الدفاع عن هذا الإمام المُجدّد الذي نذر حياته للدفاع عن بيضة الاسلام، والذي ترك للأمة تراثا فكريا وثقافيا تُحسد عليه بين الأمم.
غرّدتُ بتلك العبارة منذ أشهر، بعد أن منَّ الله عليّ بالإبحار في علم هذا الرجل ومنهجه، ولم أكن لأحلم قبلها في أن أكتب عنه.
وهأنذا أفعل..
“الأفكار لا تموت” حقيقة غائبة عن هواة مُصادرة الآراء وسجن الكلمة، وأعداء التراث.
بعد واقعة محرقة الكتب التي نفّذتها شخصية بارزة في وزارة التربية والتعليم بإحدى مدارس محافظة الجيزة بمصر، بحجة مواجهة التطرف والإرهاب.
وبعد استبعاد سيرة بطلي الإسلام عقبة بن نافع وصلاح الدين الأيوبي من مناهج التعليم بمصر بدعوى أن سيرة الشخصيتين تحرض على العنف وإراقة الدماء.
لا يزال التوجّه نحو قطع الصلة بالتراث مستمرًا، والمحطة التي نزل فيها هذه المرة هي بلدي الأردن، حيث قررت دائرة المطبوعات والنشر التحفّظ على مؤلفات الإمام ابن تيمية والمُلقب بشيخ الإسلام، وهو ما يعني منعها من دخول البلاد.
ونقل موقع الجزيرة نت عن أصحاب دور النشر الأردنية خلال لقاء معهم، أن هذه الخطوة تأتي في سياق انخراط المملكة فيما يسمى بالحرب على الإرهاب، وعلى وجه التحديد تنظيم الدولة الإسلامية المعروف إعلاميا باسم “داعش” بدعوى أن آراء ابن تيمية تمثل الزاد الفكري لهذا التنظيم.
هذه الحرب على شيخ الإسلام ابن تيمية، ليست وليدة اللحظة الراهنة، إنما لها جذورها التي تعود إلى عصر ابن تيمية نفسه، وبقيت حتى اليوم، ومع ذلك فمنهجه التجديدي يسري في دماء الأمة عبر القرون الماضية، وبلغت شهرته الآفاق حتى صار عَلَما من أعلام التجديد.
هذه الحرب على شيخ الإسلام تجتمع عليها عدة أطراف..
فالغرب يناهض أفكار بن تيمية لأنه صاحب فكر شمولي، ترتبط مؤلفاته والإرث الثقافي الذي خلّفه بواقع الناس، وكان هو في ذاته العالم الفقيه المفسر الأصولي الورع الزاهد صاحب الرؤية الاجتماعية، المجاهد المناضل، المُنظّر لفقه السياسة الشرعية.
وأشد ما يستثير فزع الغرب هو الفكرة الإسلامية الشمولية، التي تنطلق من كون الإسلام منهج حياة؛ ولذا يعتمد الغرب حاليا في ترويض النمر الإسلامي على التيار الصوفي الذي يختزل الإسلام في بعض القيم الروحية البعيدة عن التعاطي مع الواقع، وهو عين ما ينشده الغرب.
ومن ناحية أخرى، فإن غلاة الصوفية يعتبرون هذا الرجل ألدّ أعدائهم، ويكيلون له التّهم جزافا، ويطلقون عليه مع ابن القيم وشيخي محمد بن عبد الوهاب “ثالوث الكفر”.
كما أن الشيعة كذلك يعتبرون ابن تيمية من أعلام النواصب، وهو الاسم الذي يطلقونه على أهل السنة، بدعوى أنهم ناصبوا عليّا رضي الله عنه العداء، فعمّموا ما يُطلق بحق الخوارج (الذين خرجوا على عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه آنذاك) على عموم أهل السنة.
وهذه العداوة التي يُكنّها أهل هاتين الطائفتين على وجه الخصوص؛ لأن ابن تيمية كان من أكثر علماء عصره اهتماما بالردّ على الفرق الضالة، ودحض افتراءاتها وشُبهاتها، وله معهم صولات وجولات، كانت سببا في سجنه لفترات طوال.
ولست هنا بصدد تقييم الإجراءات التي اتُّخذت بشأن كتب التراث وخاصة كتب ابن تيمية، فهو أمر بلا شك، ينُمّ عن مدى السطحية التي نتعامل بها مع أصحاب الأفكار والتوجّهات المختلفة، وليت حُكّام بلادي بدلا من أن يحظروا كتب ابن تيمية، أن يقوموا بحظر كتاب “الأمير” لمكيافيلي، والذي يُمثّل دستورهم في الوصول إلى العروش والحفاظ عليها بمعزل عن الوسيلة وجسر العبور أكانت على جماجم الشعوب او عبر نهر من دم المقهورين المغلوبين على أمرهم.
من قال إن مؤلفات ابن تيمية هي الزاد الفكري للفصائل الجهادية وحدها؟
من قال إن ابن تيمية مسؤول عن كلّ فكر أو منهج قام بتأويل كتاباته؟
من قال إن ابن تيمية مُتشدّد ولا يقبل الحوار ويُكفّر المخالف؟
من قال إن أفكار ابن تيمية ومؤلفاته هي من صَنَع التطرّف؟
ابحثوا عن الأسباب الحقيقية للتطرّف والإرهاب وإراقة الدماء، وانظروا في أي أجواء القمع والاستبداد نبتت شجرته.
إنني كمُسلمة من أهل السُنّة والجماعة كبُرت في كنف (منهاج السنّة واقتضاء الصراط المستقيم) وتشرّبت المعاني السامية في (العقيدة الواسطية) ونهلت من بعض مُجلدات (مجموع الفتاوى) نهجا صارما في التعاطي مع الواقع وتناقضات الدنيا، وكان أول كتاب أهدته لي مُعلمتي النجدية (الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان) وأكاد أجزم أن من أوائل الكتب التي استعرتُها في الجامعة كانت (كتاب العبودية وكتاب السياسة الشرعية) إن لم تخُنّي الذاكرة.
فواجب عليّ أن أدافع عن ذلك الغائب الحاضر رغم جبروت الموت ورهبة التراب، ذلكم الذي وارى جثمانَه الثرى، وعانقت مؤلفاته الثريا.
وحتما لن تسمح لي مساحة السطور أن أمخُر في رحاب هذه الشخصية الفذة، لكنني أُسلّط الضوء على شيء من منهج ابن تيمية ومسلكه في التعامل مع المُخالف، لنرى إلى أي مدى كانت الجناية على هذا الرجل.
يقول عنه المفكر الإسلامي محمد عمارة: “هو واحدٌ من أبرز المُجدّدين في عصره؛ إذ جمع إلى الاجتهاد والجهاد ضد الغزاة -بالفكر والسيف- تقديم مشروع فكري لتجديد الفكر الإسلامي والحضارة الإسلامية”.
ابن تيمية هو من قصم حالة الجمود التي رانت على الأمة في ذلك العصر، وتصدى للتعصب المذهبي، ومارس الاجتهاد على طريقته الصحيحة الأولى.
ابن تيمية قدم منهجا متكاملا لمناظرة أهل البدع والضلالات، والرد على الفلسفة اليونانية بدقة وبلاغة وعمق.
ابن تيمية هو الذي أصّل للعلاقة بين العقل والنقل، وله كتاب بديع بعنوان “درء تعارض العقل والنقل”.
ابن تيمية هو من أحيا فقه الأولويات والمصالح والمفاسد، ونظّر لفقه السياسة الشرعية وصنّف فيها.
ابن تيمية هو من جمع بين النضال والجهاد بالكلمة في ميدان الوعي والفكر، وبين النضال والجهاد بالسيف في ميدان قتال الأعداء.
ابن تيمية هو من وضع قواعد في التعامل مع أهل البدع والمخالفين، لا تحيد عن العدل والحق الذي ارتضاه الله للناس.
قالوا عن ابن تيمية إنه مُنظّر التكفير!
إن عابوا عليه التكفير مُطلقا فقد خابوا وخسروا، فأيّ دين يخلو من مبادئ وضوابط للتكفير، يقول الباحث عائض الدوسري: “التكفير موجود في كل دين وفي كل مذهب وفي كل فكرة، ودين ليس فيه أصول يَكْفر من يُنكرها ليس بدين، وهذا أمرٌ تتفق عليه جميع الديانات السماوية”.
وأما إن أرادوا أن ابن تيمية يتساهل في التكفير ويجعل المُخالف له غرضا، فهي تهمة باطلة، فها هو يُبين منهجه في التكفير قائلا: “وليس لأحد أن يُكفّر أحدا من المسلمين وإن أخطأ وغلط حتى تُقام عليه الحجة وتُبيّن له المحجّة (طريق الصواب أو جادة الطريق) ومن ثبت إسلامه بيقين لم يزل ذلك عنه بالشك؛ بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة”.
وقال في موضع آخر من مجموع الفتاوى: “ولا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه كالمسائل التي تنازع فيها أهل القبلة”.
فهذا هو منهجه رحمه الله في التكفير، وهو أبعد ما يكون عن التشدّد والانحراف.
قالوا عن ابن تيمية إنه ضيّق الصدر تجاه المُخالف، ولينظر هؤلاء إلى سعة صدره في التعامل مع خصومه؛ إذ يقول: “هذا وأنا في سعة صدر لمن يخالفني فإن هو تعدى حدود الله فيّ بتكفير أو تفسيق أو افتراء أو عصبية جاهلية؛ فأنا لا أتعدى حدود الله فيه بل أضبط ما أقوله وأفعله وأزنه بميزان العدل وأجعله مؤتمّا بالكتاب الذي أنزله الله وجعله هدى للناس حاكما فيما اختلفوا فيه”.
وقال عنه أحد القضاة وكان من خصومه: “ما رأينا مثل ابن تيمية، حرّضنا عليه فلم نقدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجج عنا”.
وقال أيضا: “ما رأينا أتقى من ابن تيمية، لم نبق ممكنات في السعي فيه، ولما قدِر علينا عفا عنا”.
لقد كان ابن تيمية مثلا فريدا في تقويم الآخرين وإن خالفوه، فبالرغم من أنه كان يناهض فكر المعتزلة؛ إلا أن ذلك لم يمنعه من قول الحق بشأنهم قال: “فعمرو بن عبيد وأمثاله (معتزلة) لم يكن أصل مقصودهم معاندة الرسول صلى الله عليه وسلم”.
وقال عنهم: “إنهم مع مخالفتهم نصروا الإسلام في مواطن كثيرة وردّوا على الكفار والملاحدة بحجج عقلية”.
وقال الدكتور عبد الرحمن بن صالح المحمود في كتابه “منهج ابن تيمية في التعامل مع الأشاعرة” : “شيخ الإسلام بنى ذلك على أصل ثابت عنده،وهو تفاوت الطوائف في القرب والبعد من الحق”.
فلم يكن الإمام يضع المخالفين في سلة واحدة، وهو ما يؤكد روح الإنصاف والعدل التي كان يتحلى بها الرجل.
فكان ابن تيمية إذا ناظر المخالفين له من الأشاعرة وغيرهم، أشاد بما عندهم من الحق، وأبدى ملاحظاته على ما لديهم من خطأ.
ويعتبر أن الأشاعرة هم أهل السنة في الأماكن التي يغلب عليها أهل البدع، فيقول: “هم أهل السنة والجماعة في البلاد التي يكون أهل البدع فيها هم المعتزلة والرافضة ونحوهم”.
وللذين يتهمون ابن تيمية بالطائفية أسوق هذا المثال، الذي جسّد سماحة وعدل الإسلام لدى شيخ الإسلام مع غير المسلمين، يحكي هو بنفسه قائلًا:
“لما خاطبتُ في إطلاق الأسرى وأطلقهم (غازان وقطلوشاه) وخاطبت مولاي فيهم فسمح بإطلاق المسلمين. قال لي: لكن معنا نصارى أخذناهم من القدس فهؤلاء لا يُطلقون. فقلت له: بل جميع من معكم من اليهود والنصارى الذين هم أهل ذمتنا؛ فإنا نفكّهم ولا ندع أسيرا من أهل الملة ولا من أهل الذمة. وأطلقنا من النصارى من شاء الله”.
فهل صاحب هذه الروح والمسلك، يُتهم بأنه مُنظّر تكفيري، ورأس فتن العصر يا معشر الظالمين؟
وكالعادة أرى خيبتي أمام ناظريّ، كلما تحدثتُ عن عُظماء الإسلام ورموز المسلمين، وأشعرُ في كل مرة أنني لم أوفِّهِم حقهم، ولكنه جهدُ المُقلّ وعسى أن يبارك الله في القليل.
فلستُ من أهل العلم؛ ولذا أهيبُ بعلمائنا ودُعاتنا، أن يقوموا بما عجزتُ عنه من الدفاع عن هذا الإمام المُجدّد الذي نذر حياته للدفاع عن بيضة الاسلام، والذي ترك للأمة تراثا فكريا وثقافيا تُحسد عليه بين الأمم.