منذ شهور عن عودة د. يوسف بطرس غالي، وزير المالية، إلي منصب رفيع في صندوق النقد الدولي. ونقول عودته لأن البعض قد لا يعلم أنه استوزِر في مصر بداية من منصب في المؤسسة ذاتها.
ومؤخرًَا أعلن، وكأنه نصر قومي، في عصر الخيبة الذي نعيشه عن قرب التحاق د. محمود محيي الدين، وزير «الاستثمار»، بمنصب رفيع في البنك الدولي.
والواقعتان تنتميان إلي نمط واحد. فمن دأب منظمات التمويل الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) حامية حمي الرأسمالية العالمية، تمامًا كحال عصابات الإجرام المنظم، أن تكافئ رجالاتها في أنظمة الحكم عبر العالم بالمناصب الرفيعة، والمزايا الضخمة. وحقيقة الأمر، لمن يتعمق في الفهم، أن الرجلين، كانا ينفذان سياسة الصندوق والبنك في مصر بعد صبغها بمسحة مصرية، وكأنما الحكم التسلطي المتحالف من الرأسمالية المنفلتة في مصر سيد قراره.
تفوق «يوسف» في الجباية الجائرة التي وصفناها في مقال سابق بأنها «تنهب الكادحين لتثري شلة الحكم»، مخالفًا بذلك التوجيه الحكيم للإمام علي في «نهج البلاغة»: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً… وإن العمران مُحتمل ما حمَّلته وإنما يؤتي خراب الأرض من إعواز أهلها".
وبز «محمود» أقرانه في إهدار أصول شعب مصر من خلال الخصخصة المتلهفة والمشوبة بعيوب جسيمة والمنطوية علي شبهات فساد فاجر، وزاد علي ذلك فيما سمي زورًا وبهتانًا، «تشجيع الاستثمار الأجنبي»، محاولة بيع أصول مصر حتي أرضها الطهور، وإن يكن لغير المصريين، عربًا وأجانب.
ومعلوم للكافة أن غاية المؤسستين الدوليتين، بالتحالف مع وزارة الخزانة الأمريكية، هي دعم الرأسمالية علي صعيد العالم تحت ستار العولمة الاقتصادية. وقد أدي نشاطهما المجسد فيما يسمي «توافق واشنطن» منذ سبعينيات القرن الماضي إلي تفاقم البطالة واستشراء الفقر وتفاقم سوء توزيع الدخل علي صعيد العالم، وفي البلدان التي طبقت سياساتهما في إعادة الهيكلة الرأسمالية من دون تمييز، وأفضت في النهاية إلي الأزمة المالية العالمية في العام 2008.
وجدير بالذكر أن المؤسستين تنهجان أسلوب التدليس الإعلامي بالإعلان عن أن غايتهما هي محاربة الفقر في العالم، علي حين تتمخض سياساتهما فعلا عن استشراء الفقر، نتيجة لتكريس الرأسمالية المنفلتة وتشجيع رأس المال، ولو كان محتكرًا ومنعدم الكفاءة، وليس هذا التفارق اللافت ببعيد عما يعلنه الحزب الحاكم في مصر ويتناقض مع نتائج سياساته علي أرض الواقع.
ومن عجائب الأمور أن يتولي الوزير الذي ساهم بجدارة في إفقار شعب مصر ونهبه، لصالح الرأسمالية الدولية، مسؤولية محاربة الفقر في البنك الدولي، وأن يبرر البنك التعيين بنجاحه في مكافحة الفقر في مصر وتجنيب البلاد عواقب الأزمة المالية الدولية، علي حين زادت سياساته من معاناة المصريين، ولم تنجح إلا في تجنيب شلة الحكم من أهل الثروة في مصر غوائل الأزمة من خلال تدليل كبار أهل الثروة، عبر تدفقات التمويل العام الإضافي التي تحولت إلي مصادر إثراء جديدة لشلة تزاوج السلطة والثروة علي حساب تضخم الدين العام، وزيادة دعم الصادرات، لمن لا يدفعون حتي ضرائب علي دخولهم الهائلة. ولكن يستقيم الأمر بفهم الغرض الأصيل للمؤسستين الدوليتين، ولنظام الحكم التسلطي المتحالف مع الرأسمالية المنفلتة في مصر. ولا يجب أن يغيب عنا، في النهاية، أن توقيت إعلان تعيين «محمود» يمكن أن يعد بمثابة مكافأة تسليم الحكم التسلطي الموالي للغرب، للسلطة الفلسطينية إلي المباحثات المباشرة مع العدو الإسرائيلي في ظل أشد حكوماته تعنتًا. تلك المباحثات التي حرصت عليها الإدارة الأمريكية الحالية إلي حد تهديد رجلها علي رأس تلك السلطة بالويل والثبور إن لم يلتحق بها قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي. فلا انفصال بين السياسة والاقتصاد، في الفهم الصحيح للأمور.
إذن عاد «يوسف» بعد أن نفّذ مهمته بنجاح، ولكن «محمود» قدّم أوراق اعتماده، وقُبلت!
وحتي نبطل حجة أساطين نظام الحكم التسلطي المتحالف مع الرأسمالية المنفلتة في مصر، بأن معارضي سياسات الإفقار والنهب يكتفون بالنقد ولا يقدمون تصورات بديلة، نقدم فيما يلي تصورا للتنمية الإنسانية المستقلة في مصر، يمكن أن يخلص البلاد من مغارم الرأسمالية المنفلتة المتزاوجة مع الحكم التسلطي.
عن التنمية الإنسانية المستقلة
تمهيد
قد يبدو للبعض أن الحديث عن «التنمية المستقلة» في عصر العولمة المنفلتة والتنظيم الرأسمالي البربري الذي نعيشه يمثل ضربًا من التخليط غير المسئول، أو علي أفضل تقدير، نوعًا من الحنين غير العقلاني إلي عصر مضي ولن يعود.
ولكن مثل هذا التقييم يقع في خطأين رئيسيين: الأول، اعتبار أن التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي أو الانقطاع عن العالم، وهو ما لم يقل به عاقل.
والخطأ الثاني هو تصور أن إدماج الاقتصادات النامية في السوق العالمية علي النمط الطليق الذي فرضته القوي المهيمنة علي الاقتصاد العالمي، أو ما يسمي بـ«توافق واشنطن»، بترغيب ودعم، أو ضغط وترهيب، من مؤسسات التمويل الدولية متحالفة مع وزارة الخزانة الأمريكية، وبقوة السلاح كما شهدنا مؤخرًَا في غزو أفغانستان والعراق، وبضلوع من أنظمة الحكم الفاسد القائمة في هذه البلدان، يمكن أن يؤدي إلي تنمية حق.
إن تجربة العقود الثلاثة الماضية قد بينت أن مثل هذا النمط من التنظيم الاقتصادي قد جر علي العالم، خاصة البلدان النامية، ويلات علي صورة انتشار الفقر والبطالة وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة، علي صعيد العالم ككل، وداخل البلدان، خاصة تلك النامية التي تبنت نظام السوق الطليقة دون تأسيس آليات الضبط المجتمعي للأسواق-لحماية المنافسة- والعدالة التوزيعية، المطلوبان معا لكفاءة نظام السوق الحرة وللتقليل من المساوئ المجتمعية الحتمية لعمل السوق الحرة من دون هذين الشرطين.
لكن المنادين بالاندماج في الاقتصاد العالمي بشروط العولمة الطليقة يعبرون عن مصالح ضخمة في مراكز الاقتصاد العالمي من ناحية وامتدادات لها في البلدان النامية من ناحية أخري، تساندها قوي عاتية في مجال الإعلام ولا تتورع عن اللجوء للنشاطات السرية وللقوة العسكرية لحماية هذه المصالح.
إلا أنه في مشروع للنهضة في مصر يمكن صوغ مفهوم للتنمية المستقلة يتسق مع روح العصر من جانب، ويحقق للبلد، ولجميع المصريين، العزة والمنعة من جانب آخر.
في المفهوم
المبدأ الناظم الأساس لفكرة التنمية المستقلة هو تحرير القرار التنموي - شاملا تحديد غايات التنمية وتعيين وسائلها - في مصر من السيطرة الأجنبية، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، بما في ذلك سطوة عملاء القوي الأجنبية المتنفذين في هيكل القوة حاليا- دون أن يعني ذلك الانقطاع عن أفضل منجزات البشرية في العالم المعاصر.
ويتطلب ذلك التوجه تعبئة إمكانات الأمة، وتوظيفها بأقصي كفاءة ممكنة، مسخرة لصالح أبنائها ورفعة الوطن في المقام الأول.
وفي ظل نسق من الحكم الصالح الممثل للناس عامة والخاضع للمساءلة الفعالة أمامهم، يصبح رفاه عامة الناس هو الهدف الأعلي للتنمية المستقلة والموجه الأهم لاتخاذ القرار، مما يؤدي إلي إنهاء مسيرة الإفقار الشعبي التي قام عليها نظام حكم الانحطاط/الهوان القائم.
مثل هذه التنمية المستقلة تحقق للأمة الكرامة والعزة، وتضمن لجهد التنمية الدوام، مفعم بالحرص علي مصالح الأجيال المقبلة.
بإيجاز تضمن التنمية المستقلة حرية الوطن وحرية المواطن في آن واحد.
والمبدأ الناظم الثاني لمفهوم التنمية المستقلة في بدايات الألفية الثالثة، هو اعتماد مفهوم للرفاه الإنساني يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة علي الوفاء بالحاجات المادية للبشر، ناهيك عن الحصول علي دخل مناسب، إلي التمتع بالمكونات المعنوية للتنعم الإنساني مثل الحرية والمعرفة والجمال. ما نريد إذن هو تنمية إنسانية، عمادًا لنهضة إنسانية في عموم مصر.
ونظرا للأهمية المحورية لمسألة الحرية، وتداعياتها، نتوقف عندها قليلا. نتبني هنا تعريفًا شاملا للحرية، يمتد من حرية الوطن إلي حرية المواطن، ويكافئ التنمية الإنسانية، وهي تتطلب بالضرورة نسقًا من الحكم الصالح الذي يضمن صيانتها وتوسع نطاقها. ونذكر هنا فقط بأن نسق الحكم الصالح هذا يضمن، من خلال حماية الحرية بمفهومها الشامل، العدل الاجتماعي عبر صيانة الكرامة الإنسانية للجميع، كما يصون حقوق المواطنة غير منقوصة لجميع المواطنين دون أي تفرقة. ويضمن، علي وجه الخصوص، التداول السلمي للسلطة السياسية احترامًا لمطلب الحكم الصالح.
ومن حيث التنظيم المجتمعي، يقوم مجتمع الحرية والحكم الصالح علي تضافر قطاعات ثلاثة: الدولة، شاملة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ وقطاع الأعمال، بشقيه العام والخاص؛ والمجتمع المدني، بالتعريف الواسع الذي يضم جميع الأشكال المؤسسية في المجال العام، المستقل عن سلطة الدولة، التي ينتظم فيها أفراد المجتمع كمواطنين ساعين إلي الصالح العام دونما استهداف للربح أو المنفعة الشخصية. ويتعين أن تخضع القطاعات الثلاثة لمعايير الحكم الصالح من اتساع التمثيل والشفافية والإفصاح والمساءلة من قبل الناس عامة.
وفي مشروع للنهضة في الوطن العربي يتعين بسط الحكم الصالح علي الصعيدين القطري والقومي كليهما، بما يمكن أن يساهم أيضا في إصلاح الحكم علي الصعيد العالمي.
المبدأ الناظم الثالث لمفهوم لتنمية المستقلة يتمحور حول أن مصدر القيمة في العالم المعاصر قد أضحي إنتاج المعرفة، وليس ركام الموارد الأولية، أو الأرصدة المالية، أو حتي حجم الناتج الإجمالي، بالتقويمات التقليدية في نظم الحسابات القومية. ومن ثم، فإن مضمون التنمية الجدير بالاعتبار في هذه الحقبة من تطور البشرية هو إقامة مجتمعات المعرفة. أي تلك المجتمعات التي تنتظم جميع صنوف النشاط البشري فيها حول اكتساب المعرفة وتوظيفها بكفاءة، وتقدم مساهمة فعالة في تقدم البشرية جمعاء من خلال إنتاجها للمعرفة. ومن ثم، وجب أن يعتمد مضمون التنمية المستقلة في مصر جوهريا علي محور إقامة مجتمع المعرفة. المبدأ الناظم الرابع للتنمية المستقلة في مصر هو إنشاء نسق مؤسسي للتعاون العربي يتوجه نحو التكامل وصولا إلي قيام «منطقة مواطنة حرة عربية» يتمتع فيها المواطن العربي بحقوق المواطنة، غير منقوصة، في أي من وكل البلدان العربية، يساندها نسق حكم صالح علي الصعيد القومي.
فأي بلد عربي، مهما كبر في منظور أو آخر، ليس إلا قزما في المعترك العالمي، الذي تسعي فيه حتي القوي الأكبر للتكامل في تجمعات أضخم. وليس هوان الأمة في معارك التحرر الوطني إلا تعبيرا جليا عن تقزم أي من الدول العربية في المعترك الإقليمي والعالمي. ولا سبيل للتغلب علي هذا التقزم إلا بالاتحاد الذي مافتئت أنظمة الحكم الراهنة تتهرب منه وتناور للالتفاف حوله، حرصا علي مصالح ثلل الحكم الضيقة.
وعندنا أن القصور التنموي في البلدان العربية يعود، بقدر كبير، إلي هذا التشرذم، الذي يجعل أي تنمية حق، ناهيك عن أن تكون مستقلة، عصية. فقد كانت نتيجة محاولة التنمية المنفردة والمندمجة في الاقتصاد العالمي تحت نمط السوق الطليق، هي ضعف النمو الاقتصادي، وانتشار الفقر والبطالة، وتفاقم سوء توزيع الدخل والثروة، واستشراء الفساد، وتردي اكتساب المعرفة، واغتيال الحرية، علي أصعدة الفرد والمجتمع والوطن بكامله، وخلل الحكم، عبر آليتي الاستبداد والفساد في الداخل، والاستباحة من الخارج.
والمبدأ الناظم الخامس للتنمية المستقلة هو الانفتاح الإيجابي علي العالم المعاصر بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية من منطلق التحرر الوطني وتقرير المصير، بما ينهي استباحة الأمة من خارجها، ولكن دون انقطاع أو معاداة معممة أساسها الرعب من الخارج الذي يتغذي علي الجهل به. والمقصود هنا هو الانفتاح علي البشرية جمعاء، أينما يمكن أن نجد زادا لمشروع النهضة العربي، وليس الغرب وحده، وليس الولايات المتحدة فقط داخل الغرب. وينفي هذا المبدأ الناظم عن التنمية المستقلة شبهة الانكفاء علي الذات أو الانقطاع عن مسيرة البشرية التقدمية.
غايات التنمية المستقلة
الغاية الأسمي للتنمية الإنسانية المستقلة هي المساهمة في تأسيس مسار النهضة بما يحمي الكرامة الإنسانية للمصريين جميع ويصون حرية الوطن. فقيام بنيان إنتاجي ضخم وراق ودائب التطور، يتطلب قيام قدرة تقانية مطردة الترقي، ويحقق نهاية مستوي كريم من الرفاة الإنساني للجميع في مصر، لهو مكون مركزي لدولة منيعة، ومواطنين لها أعزاء. والغاية الأساس للتنمية المستقلة في مصر، علي مستوي الفرد، هي تحقيق أعلي مستوي ممكن من الرفاة الإنساني بالمعني المتقدم، واطراد ترقيته علي الدوام. ويتفرع عن هذه الغاية غايات فرعية عديدة تشكل «دالة هدف» مجتمع التنمية المستقلة- مع الإشارة إلي أن تعيين معالم هذه الدالة، أو تحديد زمرة الغايات الفرعية، يجب اعتباره متغيرا في الزمن، بحيث يجري إعادة النظر فيه، في السياق الديمقراطي للحكم الصالح استجابة لتغير الظروف ولتنامي رغبات الشعب وتغيرها وتنامي إمكانات إشباعها عبر الزمن. وفي منظور الوقت الراهن يتعين أن تحظي الغايات الفرعية التالية بأولوية. > إتاحة السلع العامة الأساسية للشعب كله، خاصة تلك المرتبطة بالأمن القومي، مثل الأمن المائي والغذائي والعسكري، مما يعين علي الاعتماد علي الذات ومقاومة الضغوط الخارجية الهادفة إلي تحقيق مصالحها في المنطقة، ومما يصب في تدعيم الاستقلال التنموي ومنافحة استباحة الأمة من خارجها. > محاربة أدواء المسار التنموي العربي العاجز الراهن، مثل الأمية والبطالة والفقر، وتدهور عدالة توزيع الدخل والثروة، والفساد، وتدهور الأمن الإنساني الناجم عن تكريس هذه المثالب في المسار التنموي الراهن. والتي تتطلب بدورها: ترقية الكفاءة الإنتاجية للمواطن وللاقتصاد المصري، بما يدعم تنافسية الاقتصاد، وبما يتطلبه ذلك من تحسين اكتساب المعارف والقدرات البشرية، من خلال التعليم والتدريب، راقيا النوعية والمستمرين مدي الحياة، وإقامة التنظيم المجتمعي السليم للإنتاج والحكم الصالح للمشروعات الإنتاجية، في عموم الوطن. إقامة نظم الحماية الاجتماعية، أو شبكات الأمان الاجتماعي، الحكومية والأهلية، الكفيلة بانتشال ضحايا اقتصاد السوق المنفلت والحكم الفاسد من وهدة الإفقار، من خلال ضمان العيش الكريم وتمكينهم من التغلب علي الفقر عبر اكتساب القدرات البشرية وتوظيفها. وتوجيه الإنفاق العام لخدمة هذه الأغراض من خلال التشغيل في القطاع العام والحكومة عند الحاجة، وتقديم الخدمات العامة، راقية النوعية. وإعادة الاعتبار للعمل الأهلي في هذا المضمار بإحياء مؤسسات الزكاة والأوقاف وتشجيعها. تبني أساليب تحقيق العدالة في توزيع الدخل والثروة من خلال آليات الضرائب، مع محاربة التهرب الضريبي الذي يستفيد منه، في الأساس، المتنفذون، بفعالية. وتعديل بنية الضرائب بالتركيز علي الضرائب المباشرة علي الدخل التي تؤسس لإمكان محاسبة دافعي الضرائب لسلطة الحكم باعتبارهم مموليها، خلافا للنمط الذي ساد في مصر بالتركيز علي الضرائب غير المباشرة التي يتحمل الفقراء ومحدودو الدخل عبئها الأثقل. السعي الحثيث، نحو تكامل الاقتصادات القطرية العربية في جميع المجالات، خاصة التعاون في ترقية الإنتاجية في البلدان العربية وإقامة سوق عمل قومي نشط وكفء، ما يمكن أن يساهم في مواجهة مشكلة البطالة المستشرية في البلدان العربية.
> ضمان التناغم مع الطبيعة، حرصا علي دوام التنمية، خاصة في منظور ضمان حقوق الأجيال التالية، من ناحية وتحقيقا لجانب مهم من الرفاه المعنوي للإنسان (التمتع ببيئة سليمة وصحية). وسائل بناء التنمية الإنسانية المستقلة الوسيلة الأساس هي إقامة التنظيم المجتمعي الذي يمكن أن يحمل غايات التنمية المستقلة في الوطن العربي. وتتمثل، كما أسلفنا في تضافر قطاعات المجتمع الثلاثة: الدولة والمجتمع المدني وقطاع الأعمال، مع خضوعها لمعايير الحكم الصالح. فقد تبين بما لا يدع مجالا لشك أن إقامة التنمية بالاعتماد أساسا علي قطاع خاص منفلت ليس إلا سرابا خادعا يحمل في طياته خدمة مصالح القوي المهيمنة علي الاقتصاد العالمي، وامتداداتها في بلدن المحيط النامي، ويجر تبعات ليست إلا معوقات للتنمية كما نفهمها. والجانب الثاني لهذه العملة، هو ضرورة قيام دور مركزي لدولة فاعلة وقادرة في مسيرة التنمية المستقلة. إذ حتي في التنظيم الرأسمالي الكفء، يتعين علي الدولة أن تقوم بكفاءة بمهام ضبط نشاط قطاع الأعمال، لاسيما شقه الهادف للربح، بما يحقق المصلحة العامة، وأن تضطلع بوظيفة العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع عوائد النشاط الاقتصادي لخدمة التنمية المستقلة، وعلي وجه الخصوص في القيام بمهام التنمية المستقلة التي قد يحجم عنها قطاع الأعمال، بالذات شقه الخاص، بسبب تمسكه باعتبارات تعظيم الربح في الأجل القصير، وفي تمكين الفقراء من انتشال أنفسهم من وهدة الإفقار الذي هو نتيجة حتمية لنشاط السوق المنفلت. ومن ثم، يتكامل مع وجود قطاع خاص مضبوط بالمصلحة العامة، من قبل الدولة، والمجتمع المدني. قطاع أعمال عام يكون هو الآخر، قادرا، كفئا ومجددا، ومضبوطا بالمصلحة العامة. لقد آن الأوان للقضاء علي حالة الترويع التي خلقتها برامج إعادة الهيكلة الرأسمالية في البلدان العربية، تحت المسمي الخداع «الإصلاح الاقتصادي»، من قيام قطاع أعمال عام في الاقتصادات العربية. بل يقتضي تعظيم فرص التنمية المستقلة العدول عن تحويل الملكية العامة إلي الملكية الخاصة في ظل برامج التكيف الهيكلي، والذي تم بتسرع وإفساد منذ سبعينيات القرن العشرين، ولم يفلح في ترقية الإنتاجية أو خلق فرص العمل كما كان يدعي، ولكن ساهم في خلق فئة رأسمالية تابعة للمصالح الخارجية ولرأس المال العالمي، وفي إنشاء تزاوج خبيث بين وجهي القوة (الثروة والسلطة) في البلد، وفي تعميق الاستقطاب الاجتماعي واستشراء الفساد. ويعني ذلك التوجه علي وجه الخصوص، تأميم المشروعات الاحتكارية التي أضحت مملوكة للقطاع الخاص، المحلي والأجنبي، والتي اقتنصت بأثمان بخس في حمي «الخصخصة»، وأفضت إلي مثالب مجتمعية عديدة من دون أن تسهم في خلق فرص العمل أو تعظيم الناتج أو ترقية الإنتاجية. ولكن حيث عاني قطاع الأعمال العام فيما مضي، في سياق سياسات اقتصادية واجتماعية غير رشيدة، من سوءات تردي الإنتاجية والبطالة المستترة وضعف العائد الاقتصادي، يصبح من الواجب تبني أشكال جديدة من الملكية العامة توسّع نطاق الملكية من الحكومة إلي الشعب، وتكرس الملكية التعاونية، وتنافح ضعف الإنتاجية والبطالة المستترة، وتسمح، لتحقيق هذه الأهداف، بقيام نسق من الحكم الصالح في مشروعات قطاع الأعمال، يتميز باتساع التمثيل والشفافية والإفصاح والمساءلة والمسئولية المجتمعية. إذ في مشروع قومي للتنمية المستقلة يمثل قطاع الأعمال العام، مع القطاع الخاص الهادف للربح، دعامت قطاع قوي وقادر للأعمال، يتكاملان في بنية إنتاجية تدعم بناء الطاقات الإنتاجية بشرط أن يتحلي المكونان كليهما بمبادئ الحكم الصالح. وبحيث يتخلص قطاع الأعمال العام من سوءات حقبة مضت، كان فيها مرتعا للبطالة المقنعة وتردي الإنتاجية وللتعمية علي خطايا القرار السياسي والاقتصادي غير الرشيد، ويبرأ القطاع الخاص من سوءات الانفلات والركض وراء الربح السريع في عصر العولمة الرأسمالية المنفلتة الذي عايشناه منذ الربع الأخير من القرن الماضي، وسبيل ذلك ضبط الدولة للأسواق وقيامها بدور العدالة التوزيعية. ويتفرع عن ذلك النمط من «الاقتصاد المختلط» الحاجة لقيام جهد تخطيطي كفء، من الصنف التأشيري، تسانده قواعد بيانات شاملة ودقيقة ودائبة التحديث، والذي ترسم فيه الدولة الموجهات العامة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي وتتيحها لجميع وحدات النشاط في قطاعات المجتمع الثلاثة. والوسيلة الثانية للتنمية الإنسانية المستقلة هي بناء الطاقات الإنتاجية الذاتية، ما يستلزم تعبئة الادخار المحلي وضمان أقصي استفادة من رأس المال البشري المصري في الداخل، مع العمل علي توظيف الإمكانيات الهاربة من خلل المسيرة التنموية الحالية، سواء كانت علي صورة رؤوس أموال (مالية)، أو وهو الأهم رأس المال المعرفي الذي تحمله الكفاءات المصرية المقيمة بالخارج. والوسيلة الثالثة، هي بناء آليات فعالة للتكامل العربي في جميع مجالات النشاط الاقتصادي، وبوجه خاص في اكتساب المعرفة، وترقية الإنتاجية، وتعظيم التنافسية. فعلي الرغم من كثرة الآليات القائمة حاليا في ميدان «العمل العربي المشترك» فهي تشترك جميعا في سوءات البيروقراطية الدولية من بطء وعقم، بل وفساد في أحيان. تصحيح مسار التنمية في البلدان العربية تتطلب العملية التاريخية للتحول نحو النهضة تغييرا جوهريا في مفهوم التنمية وآلياتها بما يوفر مكونا اقتصاديا رشيدا لهذه النقلة المجتمعية المبتغاة. كما يستلزم هذا التحول إقامة البنية المؤسسية للحكم الصالح في قطاع الأعمال، بشقيه العام والخاص، باعتبارها ضمانة الرشد للنسق الاقتصادي ودوره السياسي. ويتم ذلك عبر تعبئة الموارد وتشجيع الاستثمار في الأصول الإنتاجية، البشرية والمادية، خاصة تلك المؤسسة لنمط إنتاج المعرفة، وترقية الإنتاجية باطراد. ويتطلب ذلك علي وجه الخصوص، في منظور التنمية الإنسانية، ضمان اكتساب القدرات البشرية الأساس، بالتركيز علي اكتساب المعرفة مدي الحياة وتأسيس نسق الحوافز المجتمعي والذهنية (النموذج المعرفي) المؤازرين لتلك التحولات بما يثيب العمل المنتج بدلا من الركون إلي الريع علي الحظوة من مصادر القوة (السلطة السياسية والثروة). ويكمل تلك التحولات تعزيز التنافسية والكفاءة في الاقتصادات العربية، والتزام الدول العربية بتحقيق العدالة التوزيعية، وجميعها تتطلب مكافحة الفساد الضارب في البلدان العربية.
> هل هناك فرصة لنجاح التنمية المستقلة في مصر؟ - الإجابة هي، اختصارا وقطعا، نعم، بكل تأكيد، إن توافرت شروط الحكم الصالح أو علي الأقل بدايات جادة للتحول نحو الحرية والحكم الصالح. الصين فعلتها في أقل من أربعة عقود، فاقتحمت الحداثة الغربية، وصنعت حداثتها الخاصة، وباتت تعتبر القوة الأعظم الآتية بدءا من ظروف ربما كانت أسوأ من الأوضاع الراهنة في البلدان العربية عند منتصف القرن العشرين. فلماذا يبقي العجز والقعود من نصيب المصريين والعرب وحدهم؟ وقد يحاج البعض بأن الصين حالة استثنائية لا يقاس عليها. فماذا إذن عن الهند وإيران، بل وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة؟ إن القصور التنموي الراهن ليس إلا نتيجة حتمية لخلل في الحكم في البلدان العربية علي الصعيدين القطري والقومي. ما يشير مرة أخري إلي الأهمية القصوي للإصلاح السياسي كمحور لمسار النهضة في هذه البقعة من العالم. يسود إجماع علي أن السوق الطليق، لا محالة، يكافئ الأقوياء (الأغنياء) ويزيدهم قوة ويعاقب الضعفاء (الفقراء) ويعمق من استضعافهم. وهذا هو ما يسمي «فشل السوق الطليق» الذي يمكن تفاديه من خلال ضبط الدولة للأسواق وقيامها بوظيفة العدالة التوزيعية في المجتمع عبر استخدام آلية الضرائب لتمويل تقديم الخدمات العامة- أساسا التعليم والرعاية الصحية- وشبكات الأمن الاجتماعي حتي لا يزداد الفقراء فقرا بينما يغتني الأغنياء أكثر.
ومؤخرًَا أعلن، وكأنه نصر قومي، في عصر الخيبة الذي نعيشه عن قرب التحاق د. محمود محيي الدين، وزير «الاستثمار»، بمنصب رفيع في البنك الدولي.
والواقعتان تنتميان إلي نمط واحد. فمن دأب منظمات التمويل الدولية (صندوق النقد الدولي والبنك الدولي) حامية حمي الرأسمالية العالمية، تمامًا كحال عصابات الإجرام المنظم، أن تكافئ رجالاتها في أنظمة الحكم عبر العالم بالمناصب الرفيعة، والمزايا الضخمة. وحقيقة الأمر، لمن يتعمق في الفهم، أن الرجلين، كانا ينفذان سياسة الصندوق والبنك في مصر بعد صبغها بمسحة مصرية، وكأنما الحكم التسلطي المتحالف من الرأسمالية المنفلتة في مصر سيد قراره.
تفوق «يوسف» في الجباية الجائرة التي وصفناها في مقال سابق بأنها «تنهب الكادحين لتثري شلة الحكم»، مخالفًا بذلك التوجيه الحكيم للإمام علي في «نهج البلاغة»: «وليكن نظرك في عمارة الأرض أبلغ من نظرك في استجلاب الخراج، لأن ذلك لا يدرك إلا بالعمارة. ومن طلب الخراج بغير عمارة أخرب البلاد وأهلك العباد، ولم يستقم أمره إلا قليلاً… وإن العمران مُحتمل ما حمَّلته وإنما يؤتي خراب الأرض من إعواز أهلها".
وبز «محمود» أقرانه في إهدار أصول شعب مصر من خلال الخصخصة المتلهفة والمشوبة بعيوب جسيمة والمنطوية علي شبهات فساد فاجر، وزاد علي ذلك فيما سمي زورًا وبهتانًا، «تشجيع الاستثمار الأجنبي»، محاولة بيع أصول مصر حتي أرضها الطهور، وإن يكن لغير المصريين، عربًا وأجانب.
ومعلوم للكافة أن غاية المؤسستين الدوليتين، بالتحالف مع وزارة الخزانة الأمريكية، هي دعم الرأسمالية علي صعيد العالم تحت ستار العولمة الاقتصادية. وقد أدي نشاطهما المجسد فيما يسمي «توافق واشنطن» منذ سبعينيات القرن الماضي إلي تفاقم البطالة واستشراء الفقر وتفاقم سوء توزيع الدخل علي صعيد العالم، وفي البلدان التي طبقت سياساتهما في إعادة الهيكلة الرأسمالية من دون تمييز، وأفضت في النهاية إلي الأزمة المالية العالمية في العام 2008.
وجدير بالذكر أن المؤسستين تنهجان أسلوب التدليس الإعلامي بالإعلان عن أن غايتهما هي محاربة الفقر في العالم، علي حين تتمخض سياساتهما فعلا عن استشراء الفقر، نتيجة لتكريس الرأسمالية المنفلتة وتشجيع رأس المال، ولو كان محتكرًا ومنعدم الكفاءة، وليس هذا التفارق اللافت ببعيد عما يعلنه الحزب الحاكم في مصر ويتناقض مع نتائج سياساته علي أرض الواقع.
ومن عجائب الأمور أن يتولي الوزير الذي ساهم بجدارة في إفقار شعب مصر ونهبه، لصالح الرأسمالية الدولية، مسؤولية محاربة الفقر في البنك الدولي، وأن يبرر البنك التعيين بنجاحه في مكافحة الفقر في مصر وتجنيب البلاد عواقب الأزمة المالية الدولية، علي حين زادت سياساته من معاناة المصريين، ولم تنجح إلا في تجنيب شلة الحكم من أهل الثروة في مصر غوائل الأزمة من خلال تدليل كبار أهل الثروة، عبر تدفقات التمويل العام الإضافي التي تحولت إلي مصادر إثراء جديدة لشلة تزاوج السلطة والثروة علي حساب تضخم الدين العام، وزيادة دعم الصادرات، لمن لا يدفعون حتي ضرائب علي دخولهم الهائلة. ولكن يستقيم الأمر بفهم الغرض الأصيل للمؤسستين الدوليتين، ولنظام الحكم التسلطي المتحالف مع الرأسمالية المنفلتة في مصر. ولا يجب أن يغيب عنا، في النهاية، أن توقيت إعلان تعيين «محمود» يمكن أن يعد بمثابة مكافأة تسليم الحكم التسلطي الموالي للغرب، للسلطة الفلسطينية إلي المباحثات المباشرة مع العدو الإسرائيلي في ظل أشد حكوماته تعنتًا. تلك المباحثات التي حرصت عليها الإدارة الأمريكية الحالية إلي حد تهديد رجلها علي رأس تلك السلطة بالويل والثبور إن لم يلتحق بها قبل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي. فلا انفصال بين السياسة والاقتصاد، في الفهم الصحيح للأمور.
إذن عاد «يوسف» بعد أن نفّذ مهمته بنجاح، ولكن «محمود» قدّم أوراق اعتماده، وقُبلت!
وحتي نبطل حجة أساطين نظام الحكم التسلطي المتحالف مع الرأسمالية المنفلتة في مصر، بأن معارضي سياسات الإفقار والنهب يكتفون بالنقد ولا يقدمون تصورات بديلة، نقدم فيما يلي تصورا للتنمية الإنسانية المستقلة في مصر، يمكن أن يخلص البلاد من مغارم الرأسمالية المنفلتة المتزاوجة مع الحكم التسلطي.
عن التنمية الإنسانية المستقلة
تمهيد
قد يبدو للبعض أن الحديث عن «التنمية المستقلة» في عصر العولمة المنفلتة والتنظيم الرأسمالي البربري الذي نعيشه يمثل ضربًا من التخليط غير المسئول، أو علي أفضل تقدير، نوعًا من الحنين غير العقلاني إلي عصر مضي ولن يعود.
ولكن مثل هذا التقييم يقع في خطأين رئيسيين: الأول، اعتبار أن التنمية المستقلة تعني الاكتفاء الذاتي أو الانقطاع عن العالم، وهو ما لم يقل به عاقل.
والخطأ الثاني هو تصور أن إدماج الاقتصادات النامية في السوق العالمية علي النمط الطليق الذي فرضته القوي المهيمنة علي الاقتصاد العالمي، أو ما يسمي بـ«توافق واشنطن»، بترغيب ودعم، أو ضغط وترهيب، من مؤسسات التمويل الدولية متحالفة مع وزارة الخزانة الأمريكية، وبقوة السلاح كما شهدنا مؤخرًَا في غزو أفغانستان والعراق، وبضلوع من أنظمة الحكم الفاسد القائمة في هذه البلدان، يمكن أن يؤدي إلي تنمية حق.
إن تجربة العقود الثلاثة الماضية قد بينت أن مثل هذا النمط من التنظيم الاقتصادي قد جر علي العالم، خاصة البلدان النامية، ويلات علي صورة انتشار الفقر والبطالة وتفاقم التفاوت في توزيع الدخل والثروة، علي صعيد العالم ككل، وداخل البلدان، خاصة تلك النامية التي تبنت نظام السوق الطليقة دون تأسيس آليات الضبط المجتمعي للأسواق-لحماية المنافسة- والعدالة التوزيعية، المطلوبان معا لكفاءة نظام السوق الحرة وللتقليل من المساوئ المجتمعية الحتمية لعمل السوق الحرة من دون هذين الشرطين.
لكن المنادين بالاندماج في الاقتصاد العالمي بشروط العولمة الطليقة يعبرون عن مصالح ضخمة في مراكز الاقتصاد العالمي من ناحية وامتدادات لها في البلدان النامية من ناحية أخري، تساندها قوي عاتية في مجال الإعلام ولا تتورع عن اللجوء للنشاطات السرية وللقوة العسكرية لحماية هذه المصالح.
إلا أنه في مشروع للنهضة في مصر يمكن صوغ مفهوم للتنمية المستقلة يتسق مع روح العصر من جانب، ويحقق للبلد، ولجميع المصريين، العزة والمنعة من جانب آخر.
في المفهوم
المبدأ الناظم الأساس لفكرة التنمية المستقلة هو تحرير القرار التنموي - شاملا تحديد غايات التنمية وتعيين وسائلها - في مصر من السيطرة الأجنبية، سواء كانت مباشرة أو غير مباشرة، بما في ذلك سطوة عملاء القوي الأجنبية المتنفذين في هيكل القوة حاليا- دون أن يعني ذلك الانقطاع عن أفضل منجزات البشرية في العالم المعاصر.
ويتطلب ذلك التوجه تعبئة إمكانات الأمة، وتوظيفها بأقصي كفاءة ممكنة، مسخرة لصالح أبنائها ورفعة الوطن في المقام الأول.
وفي ظل نسق من الحكم الصالح الممثل للناس عامة والخاضع للمساءلة الفعالة أمامهم، يصبح رفاه عامة الناس هو الهدف الأعلي للتنمية المستقلة والموجه الأهم لاتخاذ القرار، مما يؤدي إلي إنهاء مسيرة الإفقار الشعبي التي قام عليها نظام حكم الانحطاط/الهوان القائم.
مثل هذه التنمية المستقلة تحقق للأمة الكرامة والعزة، وتضمن لجهد التنمية الدوام، مفعم بالحرص علي مصالح الأجيال المقبلة.
بإيجاز تضمن التنمية المستقلة حرية الوطن وحرية المواطن في آن واحد.
والمبدأ الناظم الثاني لمفهوم التنمية المستقلة في بدايات الألفية الثالثة، هو اعتماد مفهوم للرفاه الإنساني يتجاوز التعريفات الضيقة المقتصرة علي الوفاء بالحاجات المادية للبشر، ناهيك عن الحصول علي دخل مناسب، إلي التمتع بالمكونات المعنوية للتنعم الإنساني مثل الحرية والمعرفة والجمال. ما نريد إذن هو تنمية إنسانية، عمادًا لنهضة إنسانية في عموم مصر.
ونظرا للأهمية المحورية لمسألة الحرية، وتداعياتها، نتوقف عندها قليلا. نتبني هنا تعريفًا شاملا للحرية، يمتد من حرية الوطن إلي حرية المواطن، ويكافئ التنمية الإنسانية، وهي تتطلب بالضرورة نسقًا من الحكم الصالح الذي يضمن صيانتها وتوسع نطاقها. ونذكر هنا فقط بأن نسق الحكم الصالح هذا يضمن، من خلال حماية الحرية بمفهومها الشامل، العدل الاجتماعي عبر صيانة الكرامة الإنسانية للجميع، كما يصون حقوق المواطنة غير منقوصة لجميع المواطنين دون أي تفرقة. ويضمن، علي وجه الخصوص، التداول السلمي للسلطة السياسية احترامًا لمطلب الحكم الصالح.
ومن حيث التنظيم المجتمعي، يقوم مجتمع الحرية والحكم الصالح علي تضافر قطاعات ثلاثة: الدولة، شاملة السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية؛ وقطاع الأعمال، بشقيه العام والخاص؛ والمجتمع المدني، بالتعريف الواسع الذي يضم جميع الأشكال المؤسسية في المجال العام، المستقل عن سلطة الدولة، التي ينتظم فيها أفراد المجتمع كمواطنين ساعين إلي الصالح العام دونما استهداف للربح أو المنفعة الشخصية. ويتعين أن تخضع القطاعات الثلاثة لمعايير الحكم الصالح من اتساع التمثيل والشفافية والإفصاح والمساءلة من قبل الناس عامة.
وفي مشروع للنهضة في الوطن العربي يتعين بسط الحكم الصالح علي الصعيدين القطري والقومي كليهما، بما يمكن أن يساهم أيضا في إصلاح الحكم علي الصعيد العالمي.
المبدأ الناظم الثالث لمفهوم لتنمية المستقلة يتمحور حول أن مصدر القيمة في العالم المعاصر قد أضحي إنتاج المعرفة، وليس ركام الموارد الأولية، أو الأرصدة المالية، أو حتي حجم الناتج الإجمالي، بالتقويمات التقليدية في نظم الحسابات القومية. ومن ثم، فإن مضمون التنمية الجدير بالاعتبار في هذه الحقبة من تطور البشرية هو إقامة مجتمعات المعرفة. أي تلك المجتمعات التي تنتظم جميع صنوف النشاط البشري فيها حول اكتساب المعرفة وتوظيفها بكفاءة، وتقدم مساهمة فعالة في تقدم البشرية جمعاء من خلال إنتاجها للمعرفة. ومن ثم، وجب أن يعتمد مضمون التنمية المستقلة في مصر جوهريا علي محور إقامة مجتمع المعرفة. المبدأ الناظم الرابع للتنمية المستقلة في مصر هو إنشاء نسق مؤسسي للتعاون العربي يتوجه نحو التكامل وصولا إلي قيام «منطقة مواطنة حرة عربية» يتمتع فيها المواطن العربي بحقوق المواطنة، غير منقوصة، في أي من وكل البلدان العربية، يساندها نسق حكم صالح علي الصعيد القومي.
فأي بلد عربي، مهما كبر في منظور أو آخر، ليس إلا قزما في المعترك العالمي، الذي تسعي فيه حتي القوي الأكبر للتكامل في تجمعات أضخم. وليس هوان الأمة في معارك التحرر الوطني إلا تعبيرا جليا عن تقزم أي من الدول العربية في المعترك الإقليمي والعالمي. ولا سبيل للتغلب علي هذا التقزم إلا بالاتحاد الذي مافتئت أنظمة الحكم الراهنة تتهرب منه وتناور للالتفاف حوله، حرصا علي مصالح ثلل الحكم الضيقة.
وعندنا أن القصور التنموي في البلدان العربية يعود، بقدر كبير، إلي هذا التشرذم، الذي يجعل أي تنمية حق، ناهيك عن أن تكون مستقلة، عصية. فقد كانت نتيجة محاولة التنمية المنفردة والمندمجة في الاقتصاد العالمي تحت نمط السوق الطليق، هي ضعف النمو الاقتصادي، وانتشار الفقر والبطالة، وتفاقم سوء توزيع الدخل والثروة، واستشراء الفساد، وتردي اكتساب المعرفة، واغتيال الحرية، علي أصعدة الفرد والمجتمع والوطن بكامله، وخلل الحكم، عبر آليتي الاستبداد والفساد في الداخل، والاستباحة من الخارج.
والمبدأ الناظم الخامس للتنمية المستقلة هو الانفتاح الإيجابي علي العالم المعاصر بغرض الاستفادة من أفضل منجزات البشرية من منطلق التحرر الوطني وتقرير المصير، بما ينهي استباحة الأمة من خارجها، ولكن دون انقطاع أو معاداة معممة أساسها الرعب من الخارج الذي يتغذي علي الجهل به. والمقصود هنا هو الانفتاح علي البشرية جمعاء، أينما يمكن أن نجد زادا لمشروع النهضة العربي، وليس الغرب وحده، وليس الولايات المتحدة فقط داخل الغرب. وينفي هذا المبدأ الناظم عن التنمية المستقلة شبهة الانكفاء علي الذات أو الانقطاع عن مسيرة البشرية التقدمية.
غايات التنمية المستقلة
الغاية الأسمي للتنمية الإنسانية المستقلة هي المساهمة في تأسيس مسار النهضة بما يحمي الكرامة الإنسانية للمصريين جميع ويصون حرية الوطن. فقيام بنيان إنتاجي ضخم وراق ودائب التطور، يتطلب قيام قدرة تقانية مطردة الترقي، ويحقق نهاية مستوي كريم من الرفاة الإنساني للجميع في مصر، لهو مكون مركزي لدولة منيعة، ومواطنين لها أعزاء. والغاية الأساس للتنمية المستقلة في مصر، علي مستوي الفرد، هي تحقيق أعلي مستوي ممكن من الرفاة الإنساني بالمعني المتقدم، واطراد ترقيته علي الدوام. ويتفرع عن هذه الغاية غايات فرعية عديدة تشكل «دالة هدف» مجتمع التنمية المستقلة- مع الإشارة إلي أن تعيين معالم هذه الدالة، أو تحديد زمرة الغايات الفرعية، يجب اعتباره متغيرا في الزمن، بحيث يجري إعادة النظر فيه، في السياق الديمقراطي للحكم الصالح استجابة لتغير الظروف ولتنامي رغبات الشعب وتغيرها وتنامي إمكانات إشباعها عبر الزمن. وفي منظور الوقت الراهن يتعين أن تحظي الغايات الفرعية التالية بأولوية. > إتاحة السلع العامة الأساسية للشعب كله، خاصة تلك المرتبطة بالأمن القومي، مثل الأمن المائي والغذائي والعسكري، مما يعين علي الاعتماد علي الذات ومقاومة الضغوط الخارجية الهادفة إلي تحقيق مصالحها في المنطقة، ومما يصب في تدعيم الاستقلال التنموي ومنافحة استباحة الأمة من خارجها. > محاربة أدواء المسار التنموي العربي العاجز الراهن، مثل الأمية والبطالة والفقر، وتدهور عدالة توزيع الدخل والثروة، والفساد، وتدهور الأمن الإنساني الناجم عن تكريس هذه المثالب في المسار التنموي الراهن. والتي تتطلب بدورها: ترقية الكفاءة الإنتاجية للمواطن وللاقتصاد المصري، بما يدعم تنافسية الاقتصاد، وبما يتطلبه ذلك من تحسين اكتساب المعارف والقدرات البشرية، من خلال التعليم والتدريب، راقيا النوعية والمستمرين مدي الحياة، وإقامة التنظيم المجتمعي السليم للإنتاج والحكم الصالح للمشروعات الإنتاجية، في عموم الوطن. إقامة نظم الحماية الاجتماعية، أو شبكات الأمان الاجتماعي، الحكومية والأهلية، الكفيلة بانتشال ضحايا اقتصاد السوق المنفلت والحكم الفاسد من وهدة الإفقار، من خلال ضمان العيش الكريم وتمكينهم من التغلب علي الفقر عبر اكتساب القدرات البشرية وتوظيفها. وتوجيه الإنفاق العام لخدمة هذه الأغراض من خلال التشغيل في القطاع العام والحكومة عند الحاجة، وتقديم الخدمات العامة، راقية النوعية. وإعادة الاعتبار للعمل الأهلي في هذا المضمار بإحياء مؤسسات الزكاة والأوقاف وتشجيعها. تبني أساليب تحقيق العدالة في توزيع الدخل والثروة من خلال آليات الضرائب، مع محاربة التهرب الضريبي الذي يستفيد منه، في الأساس، المتنفذون، بفعالية. وتعديل بنية الضرائب بالتركيز علي الضرائب المباشرة علي الدخل التي تؤسس لإمكان محاسبة دافعي الضرائب لسلطة الحكم باعتبارهم مموليها، خلافا للنمط الذي ساد في مصر بالتركيز علي الضرائب غير المباشرة التي يتحمل الفقراء ومحدودو الدخل عبئها الأثقل. السعي الحثيث، نحو تكامل الاقتصادات القطرية العربية في جميع المجالات، خاصة التعاون في ترقية الإنتاجية في البلدان العربية وإقامة سوق عمل قومي نشط وكفء، ما يمكن أن يساهم في مواجهة مشكلة البطالة المستشرية في البلدان العربية.
> ضمان التناغم مع الطبيعة، حرصا علي دوام التنمية، خاصة في منظور ضمان حقوق الأجيال التالية، من ناحية وتحقيقا لجانب مهم من الرفاه المعنوي للإنسان (التمتع ببيئة سليمة وصحية). وسائل بناء التنمية الإنسانية المستقلة الوسيلة الأساس هي إقامة التنظيم المجتمعي الذي يمكن أن يحمل غايات التنمية المستقلة في الوطن العربي. وتتمثل، كما أسلفنا في تضافر قطاعات المجتمع الثلاثة: الدولة والمجتمع المدني وقطاع الأعمال، مع خضوعها لمعايير الحكم الصالح. فقد تبين بما لا يدع مجالا لشك أن إقامة التنمية بالاعتماد أساسا علي قطاع خاص منفلت ليس إلا سرابا خادعا يحمل في طياته خدمة مصالح القوي المهيمنة علي الاقتصاد العالمي، وامتداداتها في بلدن المحيط النامي، ويجر تبعات ليست إلا معوقات للتنمية كما نفهمها. والجانب الثاني لهذه العملة، هو ضرورة قيام دور مركزي لدولة فاعلة وقادرة في مسيرة التنمية المستقلة. إذ حتي في التنظيم الرأسمالي الكفء، يتعين علي الدولة أن تقوم بكفاءة بمهام ضبط نشاط قطاع الأعمال، لاسيما شقه الهادف للربح، بما يحقق المصلحة العامة، وأن تضطلع بوظيفة العدالة الاجتماعية من خلال إعادة توزيع عوائد النشاط الاقتصادي لخدمة التنمية المستقلة، وعلي وجه الخصوص في القيام بمهام التنمية المستقلة التي قد يحجم عنها قطاع الأعمال، بالذات شقه الخاص، بسبب تمسكه باعتبارات تعظيم الربح في الأجل القصير، وفي تمكين الفقراء من انتشال أنفسهم من وهدة الإفقار الذي هو نتيجة حتمية لنشاط السوق المنفلت. ومن ثم، يتكامل مع وجود قطاع خاص مضبوط بالمصلحة العامة، من قبل الدولة، والمجتمع المدني. قطاع أعمال عام يكون هو الآخر، قادرا، كفئا ومجددا، ومضبوطا بالمصلحة العامة. لقد آن الأوان للقضاء علي حالة الترويع التي خلقتها برامج إعادة الهيكلة الرأسمالية في البلدان العربية، تحت المسمي الخداع «الإصلاح الاقتصادي»، من قيام قطاع أعمال عام في الاقتصادات العربية. بل يقتضي تعظيم فرص التنمية المستقلة العدول عن تحويل الملكية العامة إلي الملكية الخاصة في ظل برامج التكيف الهيكلي، والذي تم بتسرع وإفساد منذ سبعينيات القرن العشرين، ولم يفلح في ترقية الإنتاجية أو خلق فرص العمل كما كان يدعي، ولكن ساهم في خلق فئة رأسمالية تابعة للمصالح الخارجية ولرأس المال العالمي، وفي إنشاء تزاوج خبيث بين وجهي القوة (الثروة والسلطة) في البلد، وفي تعميق الاستقطاب الاجتماعي واستشراء الفساد. ويعني ذلك التوجه علي وجه الخصوص، تأميم المشروعات الاحتكارية التي أضحت مملوكة للقطاع الخاص، المحلي والأجنبي، والتي اقتنصت بأثمان بخس في حمي «الخصخصة»، وأفضت إلي مثالب مجتمعية عديدة من دون أن تسهم في خلق فرص العمل أو تعظيم الناتج أو ترقية الإنتاجية. ولكن حيث عاني قطاع الأعمال العام فيما مضي، في سياق سياسات اقتصادية واجتماعية غير رشيدة، من سوءات تردي الإنتاجية والبطالة المستترة وضعف العائد الاقتصادي، يصبح من الواجب تبني أشكال جديدة من الملكية العامة توسّع نطاق الملكية من الحكومة إلي الشعب، وتكرس الملكية التعاونية، وتنافح ضعف الإنتاجية والبطالة المستترة، وتسمح، لتحقيق هذه الأهداف، بقيام نسق من الحكم الصالح في مشروعات قطاع الأعمال، يتميز باتساع التمثيل والشفافية والإفصاح والمساءلة والمسئولية المجتمعية. إذ في مشروع قومي للتنمية المستقلة يمثل قطاع الأعمال العام، مع القطاع الخاص الهادف للربح، دعامت قطاع قوي وقادر للأعمال، يتكاملان في بنية إنتاجية تدعم بناء الطاقات الإنتاجية بشرط أن يتحلي المكونان كليهما بمبادئ الحكم الصالح. وبحيث يتخلص قطاع الأعمال العام من سوءات حقبة مضت، كان فيها مرتعا للبطالة المقنعة وتردي الإنتاجية وللتعمية علي خطايا القرار السياسي والاقتصادي غير الرشيد، ويبرأ القطاع الخاص من سوءات الانفلات والركض وراء الربح السريع في عصر العولمة الرأسمالية المنفلتة الذي عايشناه منذ الربع الأخير من القرن الماضي، وسبيل ذلك ضبط الدولة للأسواق وقيامها بدور العدالة التوزيعية. ويتفرع عن ذلك النمط من «الاقتصاد المختلط» الحاجة لقيام جهد تخطيطي كفء، من الصنف التأشيري، تسانده قواعد بيانات شاملة ودقيقة ودائبة التحديث، والذي ترسم فيه الدولة الموجهات العامة للنشاط الاقتصادي والاجتماعي وتتيحها لجميع وحدات النشاط في قطاعات المجتمع الثلاثة. والوسيلة الثانية للتنمية الإنسانية المستقلة هي بناء الطاقات الإنتاجية الذاتية، ما يستلزم تعبئة الادخار المحلي وضمان أقصي استفادة من رأس المال البشري المصري في الداخل، مع العمل علي توظيف الإمكانيات الهاربة من خلل المسيرة التنموية الحالية، سواء كانت علي صورة رؤوس أموال (مالية)، أو وهو الأهم رأس المال المعرفي الذي تحمله الكفاءات المصرية المقيمة بالخارج. والوسيلة الثالثة، هي بناء آليات فعالة للتكامل العربي في جميع مجالات النشاط الاقتصادي، وبوجه خاص في اكتساب المعرفة، وترقية الإنتاجية، وتعظيم التنافسية. فعلي الرغم من كثرة الآليات القائمة حاليا في ميدان «العمل العربي المشترك» فهي تشترك جميعا في سوءات البيروقراطية الدولية من بطء وعقم، بل وفساد في أحيان. تصحيح مسار التنمية في البلدان العربية تتطلب العملية التاريخية للتحول نحو النهضة تغييرا جوهريا في مفهوم التنمية وآلياتها بما يوفر مكونا اقتصاديا رشيدا لهذه النقلة المجتمعية المبتغاة. كما يستلزم هذا التحول إقامة البنية المؤسسية للحكم الصالح في قطاع الأعمال، بشقيه العام والخاص، باعتبارها ضمانة الرشد للنسق الاقتصادي ودوره السياسي. ويتم ذلك عبر تعبئة الموارد وتشجيع الاستثمار في الأصول الإنتاجية، البشرية والمادية، خاصة تلك المؤسسة لنمط إنتاج المعرفة، وترقية الإنتاجية باطراد. ويتطلب ذلك علي وجه الخصوص، في منظور التنمية الإنسانية، ضمان اكتساب القدرات البشرية الأساس، بالتركيز علي اكتساب المعرفة مدي الحياة وتأسيس نسق الحوافز المجتمعي والذهنية (النموذج المعرفي) المؤازرين لتلك التحولات بما يثيب العمل المنتج بدلا من الركون إلي الريع علي الحظوة من مصادر القوة (السلطة السياسية والثروة). ويكمل تلك التحولات تعزيز التنافسية والكفاءة في الاقتصادات العربية، والتزام الدول العربية بتحقيق العدالة التوزيعية، وجميعها تتطلب مكافحة الفساد الضارب في البلدان العربية.
> هل هناك فرصة لنجاح التنمية المستقلة في مصر؟ - الإجابة هي، اختصارا وقطعا، نعم، بكل تأكيد، إن توافرت شروط الحكم الصالح أو علي الأقل بدايات جادة للتحول نحو الحرية والحكم الصالح. الصين فعلتها في أقل من أربعة عقود، فاقتحمت الحداثة الغربية، وصنعت حداثتها الخاصة، وباتت تعتبر القوة الأعظم الآتية بدءا من ظروف ربما كانت أسوأ من الأوضاع الراهنة في البلدان العربية عند منتصف القرن العشرين. فلماذا يبقي العجز والقعود من نصيب المصريين والعرب وحدهم؟ وقد يحاج البعض بأن الصين حالة استثنائية لا يقاس عليها. فماذا إذن عن الهند وإيران، بل وماليزيا وكوريا الجنوبية وتايوان وسنغافورة؟ إن القصور التنموي الراهن ليس إلا نتيجة حتمية لخلل في الحكم في البلدان العربية علي الصعيدين القطري والقومي. ما يشير مرة أخري إلي الأهمية القصوي للإصلاح السياسي كمحور لمسار النهضة في هذه البقعة من العالم. يسود إجماع علي أن السوق الطليق، لا محالة، يكافئ الأقوياء (الأغنياء) ويزيدهم قوة ويعاقب الضعفاء (الفقراء) ويعمق من استضعافهم. وهذا هو ما يسمي «فشل السوق الطليق» الذي يمكن تفاديه من خلال ضبط الدولة للأسواق وقيامها بوظيفة العدالة التوزيعية في المجتمع عبر استخدام آلية الضرائب لتمويل تقديم الخدمات العامة- أساسا التعليم والرعاية الصحية- وشبكات الأمن الاجتماعي حتي لا يزداد الفقراء فقرا بينما يغتني الأغنياء أكثر.